الإنترنت، ذاك الخيط الرفيع الذي أصيح يربط تفاصيل حياتنا من أصغرها إلى أعظمها، لم يعد وسيلة ترفيه أو تواصل فحسب، بل أصبح البنية التحتية الخفية التي تقوم عليها حياتنا المعاصرة، من رسائل البريد الإلكتروني حتى الجراحات الروبوتية، ومن حجز تذكرة سفر إلى مراقبة الأقمار الصناعية، يكاد لا يمر نشاط بشري دون أن يتدخل به الإنترنت بطريقة أو بأخرى، ولكن ماذا لو انقطع هذا الخيط؟
ماذا لو استيقظ العالم فجأة ذات صباح ووجد أن الإنترنت قد اختفى تمامًا؟ ليس خللًا في الشبكة أو ضعفًا في الإشارة، بل اختفاء تام شامل يغطي كوكب الأرض بأسره، فكيف ستبدو الساعات الأولى؟ ومن سيتأثر أولًا؟ وهل سيغرق العالم في الفوضى أم يكتشف قدرته على التأقلم؟
في هذا المقال، نغوص معًا في سيناريو يبدو خياليًا، لكنه في الحقيقة أقرب إلى الواقع مما نتخيل اختفاء الإنترنت ليومٍ كامل، سنستعرض التأثيرات الاقتصادية، النفسية، الاجتماعية، وحتى التكنولوجية.
فهل نحن مستعدون؟ وهل يمكن لهذا السيناريو أن يحدث فعلًا؟
كتبت :
نور أحمد
ماذا نعني باختفاء الإنترنت؟
حين نقول اختفاء الإنترنت، فإننا لا نتحدث عن انقطاع محدود في منطقة معينة أو مشكلة مؤقتة في أحد مزودي الخدمة، نحن نتحدث عن تعطل شامل وكامل للبنية التحتية العالمية للإنترنت، بحيث تُشلّ حركة البيانات بين المستخدمين والخوادم، وتتوقف الاتصالات الرقمية تمامًا، مهما كانت وسيلتها أو غايتها، وهذا السيناريو قد يحدث نتيجة:
⦁ هجوم إلكتروني عالمي منظم يستهدف مراكز التحكم الرئيسية ونقاط الاتصال البحرية [1].
⦁ خلل ضخم في أنظمة الأقمار الصناعية أو شبكات الكابلات البحرية التي تربط العالم رقميًا [2].
⦁ انهيار في مراكز الطاقة أو الحوسبة السحابية مما يؤدي إلى تعطل خدمات الإنترنت في آنٍ واحد [3].
⦁ أو حتى تجربة علمية خارجة عن السيطرة تخلق اضطرابًا مغناطيسيًا يُعطل الاتصالات الرقمية [4].
المهم هنا ليس كيف حدث، بل نتيجة ما حدث، أن يجد مليارات البشر أنفسهم معزولين عن العالم الرقمي، بلا بريد إلكتروني، ولا تطبيقات، ولا مواقع، ولا تحويلات، ولا بث مباشر… فقط عالم واقعي بلا شبكة.
كيف سيبدو اليوم الأول بلا اتصال؟
تخيّل أن تستيقظ ذات صباح كأي يوم عادي، تمد يدك لهاتفك لترى التنبيهات، الرسائل، البريد، لكن لا شيء يظهر، فتحاول تحديث الشاشة، تظهر لك كلمة واحدة فقط: "فشل الاتصال"، تظن أنها مشكلة من هاتفك، فتُعيد تشغيله، تفصل الراوتر وتعيد تشغيله، تنتظر دقائق، ولكن لا شيء، فتحاول الاتصال بخدمة العملاء، الخط مشغول دائمًا.
تذهب إلى جارك، فتجده مثلك تمامًا: حائرًا، ممسكًا بهاتفه، يردد نفس الكلمات: "هل هناك عطل؟ الإنترنت لا يعمل معك؟" هكذا يبدأ اليوم الأول لاختفاء الإنترنت: صمت غريب، وذهول جماعي، وحالة من الإنكار في الساعات الأولى.
الذهول والارتباك في اللحظات الأولى
في أول ساعتين من انقطاع الإنترنت، لا يدرك الناس بعد حجم الكارثة، ولكن مع مرور الوقت، تبدأ الحقيقة في الظهور: الأمر لا يخص مزود الخدمة فقط، بل يشمل الجميع، كل الشبكات، كل الدول، كل الأجهزة، ومحطات التلفاز تبدأ في بث أخبار عاجلة، بصيغةٍ تقليدية: "انقطاع عالمي غير مسبوق في الإنترنت، وسنوافيكم بالتفاصيل لاحقًا"، ولكن التفاصيل لا تأتي، لأنها لا تصل من الأساس [5].
الناس في الشوارع يحدقون في هواتفهم، في لافتات المحلات، في بعضهم البعض، ومقاهٍ خالية من اللابتوبات، شباب بلا سماعات، وجوه قلقة تبحث عن تفسير لما يجري، ليكتشف الجميع فجأة أن الإنترنت لم يكن مجرد أداة، لقد كان الحياة نفسها.
توقف الحياة اليومية في مشهد غير مسبوق
مع مرور 6 إلى 8 ساعات على الانقطاع، تنكشف الآثار بوضوح: لا رسائل، ولا بريد إلكتروني، ولا تطبيقات توصيل طعام، ولا خرائط، ولا موسيقى، ولا منصات تواصل اجتماعي، ولا توجيهات مرورية، ولا خدمات طبية إلكترونية.
الناس يبدأون في الشعور بقلقٍ حقيقي، والأمهات لا يطمئنن على أبنائهن في المدرسة، والشباب لا يجدون طريقهم للعمل لأن GPS لا يعمل، والطلاب لا يستطيعون إرسال أبحاثهم ولا تلقي مهامهم، وكل فرد يشعر فجأة أن جزءًا أساسيًا من ذاكرته اليومية قد محي.
شلل تام في القطاع المالي
تُعد البنية التحتية المالية من أوائل الضحايا لاختفاء الإنترنت، فمعظم البنوك تعتمد على أنظمة متصلة مباشرة بالشبكة، التحويلات البنكية توقفت، وبطاقات الائتمان بلا جدو، والدفع الإلكتروني غير متاح، وتطبيقات البنوك لا تعمل.
يذهب الناس إلى أجهزة الـ ATM، لكن أغلبها لا تستجيب، من يعمل منها يعطي رسائل خطأ في الاتصال بمزود الخدمة، فيبدأ الناس في البحث عن العملات الورقية التي اختفت تدريجيًا من حياتهم، ويكتشفون أنهم لا يملكون سوى القليل منها في محافظهم، والمحلات ترفض البيع بالبطاقات، ويحدث نوع من الفوضى المالية الصامتة، ويشتري الناس فقط ما يحتاجونه بشدة، والبائعون يترددون في البي
أما على مستوى البورصات العالمية يحدث توقف تام، وأسواق المال الرقمية يصيبها الشلل الكامل، والاستثمارات تتجمد، والخسائر تتراكم، وبعض المستثمرين الكبار يصابون بنوبات الذعر.
انهيار التواصل في بيئات العمل
معظم الشركات في العصر الحديث تعتمد اعتمادًا شبه كامل على الإنترنت، الاجتماعات تُعقد على زووم وتيمز، والملفات تُرسل عبر البريد أو جوجل درايف، والمتابعة تتم عبر Slack أو برامج مشابهة، تقارير الأداء، وإدارة الوقت، والتطبيقات الداخلية كلها متصلة بالشبكة، ومع اختفاء الإنترنت، يحدث الانهيار.
الموظفون لا يعرفون ماذا يفعلون، بعضهم ينتظر التعليمات التي لا تأتي، والمدراء لا يستطيعون التواصل مع فرقهم، وفرق العمل تتوقف عن الإنتاج تمامًا، وفي أقسام خدمة العملاء الكارثة أكبر، فلا رسائل، ولا شكاوى، ولا طلبات، والمستخدمون الغاضبون لا يجدون من يسمعهم.
التعليم يتوقف فجأة
في المدارس والجامعات التي تبنت التعليم الإلكتروني، يُعلن اليوم عطلة قسرية، فلا منصة تعليمية، ولا محاضرات مسجلة، ولا واجبات أو مواعيد، والطلاب الذين كانوا يعتمدون على الإنترنت كوسيلة وحيدة للتعليم، يعودون فجأة إلى الصفر، وبعض المدارس تحاول توزيع مهام ورقية، لكن دون تنظيم أو تخطيط مسبق، وفي الجامعات تتعطل الاختبارات، وتُلغى المحاضرات، وتُؤجل المشروعات البحثية.
وبعد كل ذلك يراودنا السؤال الملحّ: هل كنا نعتمد على الإنترنت أكثر من اللازم؟
التأثير الاقتصادي حول العالم
"الاقتصاد لا ينام" عبارة شهيرة تعبّر عن حركة المال والتجارة حول العالم على مدار الساعة، ولكن في سيناريو اختفاء الإنترنت، ينام الاقتصاد، بل يدخل في غيبوبة، ففي غضون ساعات قليلة، تتعطل عجلة التجارة العالمية، وتنهار أنظمة البيع والشراء، وتُشلّ سلاسل التوريد، والنتائج كارثية، البورصات العالمية تتوقف، والخسائر بالمليارات.
تعتمد كل بورصات العالم، من "وول ستريت" إلى "نيكي"، على الإنترنت في تنفيذ عمليات البيع والشراء، وتحديث البيانات اللحظي، ونقل الأخبار المالية، وإصدار المؤشرات الاقتصادية، ففي يوم بدون إنترنت لا تحديث لأسعار الأسهم، ولا تنفيذ للأوامر، ولا تداول إلكتروني، ولا تقارير اقتصادية، وتتوقف الأسواق المالية تمامًا، وتُجمّد الأموال، ويبدأ الذعر ينتقل من المستثمرين إلى الشركات إلى البنوك.
في اليوم الأول فقط، قد تخسر البورصات العالمية مئات المليارات من الدولارات بسبب تجميد التداول وحده، ولكن الخسائر غير المباشرة أكبر بكثير، والتجارة الإلكترونية تختفي كأنها لم تكن، فلن يكون هناك وجود لمنصة أمازون، وتتوقف علي بابا، وتصبح جميع مواقع البيع والشراء غير متاحة، وآلاف الشركات حول العالم، الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، التي تعتمد على الإنترنت في تسويق وبيع منتجاتها، تجد نفسها فجأة خارج الخدمة.
المستهلكون لا يستطيعون الشراء، والمنتجون لا يستطيعون البيع، المخازن ممتلئة، والمبيعات صفر، وفي خلال 24 ساعة، تتوقف ملايين الطلبيات، وتتجمد سلاسل التوريد، وتضيع أرباح لا تُحصى.
تشير دراسة من CloudZero إلى أن انقطاع الإنترنت لمدة 24 ساعة قد يكلف الولايات المتحدة أكثر من 11 مليار دولار، بينما قد تصل الخسائر في الصين إلى حوالي 9.9 مليار دولار.
مخاطر الطيران والسفر
الطيران هو واحد من أكثر القطاعات اعتمادًا على الإنترنت من الحجوزات، وجداول الرحلات، ونظم التوجيه والمراقبة، ومتابعة الطائرات لحظيًا، وخدمات الملاحة، فبدون إنترنت، تتعطل مئات الرحلات، وتُلغى آلاف الحجوزات، ويعلق الناس في المطارات، لا يعرفون وجهتهم، ولا يجدون من يُجيبهم، شركات الطيران تخسر ملايين الدولارات في كل ساعة تأخير، أما الفنادق وشركات السياحة، فتتعطل تمامًا، لا حجوزات، ولا معلومات، ولا حتى خرائط لوجهات السائحين.
ارتباك حرج في قطاع الطاقة
أنظمة توزيع الكهرباء، وشبكات الغاز، وخطوط النفط كلها تُدار إلكترونيًا وتعتمد على الإنترنت في مراقبة الضغط، والتحكم عن بعد، والإنذارات الفورية، والصيانة التنبؤية، وفي حال اختفاء الإنترنت تفقد مراكز التحكم قدرتها على مراقبة الشبكات، وأي خلل فني قد يتحول إلى كارثة، وتتعرض المحطات الصغيرة للعزل، وشركات الطاقة تدخل في حالة طوارئ كاملة.
يكفي عُطل واحد في أنبوب نفط أو محطة كهرباء لتُشلّ منطقة كاملة، أو ترتفع أسعار الوقود عالميًا خلال ساعات، كما أن الشركات التقنية تخسر ثروات ضخمة، فشركات مثل جوجل، وفيسبوك، وأبل، ومايكروسوفت، وأمازون، تُعد من أعمدة الاقتصاد العالمي الحديث، وكل أرباحها تقريبًا مرتبطة بوجود الإنترنت.
وفي اليوم الأول من الانقطاع، تفقد القيمة السوقية لهذه الشركات عشرات المليارات من الدولارات، وتتجمد الإعلانات الرقمية، التي تمثل أكبر مصدر دخل لها، وتتوقف الخدمات المدفوعة (مثل اشتراكات يوتيوب، أو التخزين السحابي)، وتدخل مراكز البيانات في وضع الطوارئ، وعلى الرغم من أنها تملك احتياطات ضخمة، فإن الضربة النفسية للمستثمرين تؤدي إلى انهيار جزئي في الثقة، مما يسبب اضطرابًا كبيرًا في وول ستريت.
الصناعات الصغيرة والمتوسطة الأكثر تضررًا
بعكس الشركات الكبرى، لا تملك الشركات الصغيرة أي خطط طوارئ، ومعظمها يعتمد كليًا على التسويق عبر الإنترنت، التوصيل الرقمي، والبيع عبر مواقع التواصل، ومع اختفاء الإنترنت، يختفي معها الوجود بالكامل، فلا عملاء، ولا مبيعات، ولا وسيلة تواصل، ولا مصدر دخل بديل، ويبدأ الكثير منها في إعلان عطلة مؤقتة، سرعان ما تتحول إلى إغلاق دائم في بعض الحالات.
الخدمات التي ستتوقف
قد تعتقد أن توقف الإنترنت يعني فقط فقدان القدرة على تصفح فيسبوك أو مشاهدة فيديوهات يوتيوب، لكن الحقيقة أعمق وأخطر بكثير، فالإنترنت لم يعد وسيلة للترفيه فقط، بل صار البنية التحتية لحياتنا كلها، وكل شيء تقريبًا مرتبط به، وبالتالي ربما كل شيء سيتوقف.
البنوك والمعاملات المالية
أغلب البنوك تعتمد على الإنترنت في:
⦁ تحويل الأموال.
⦁ متابعة الحسابات.
⦁ إصدار الحوالات.
⦁ خدمات الدفع الإلكتروني.
⦁ أجهزة الصراف الآلي.
بدون إنترنت، تتوقف هذه الخدمات، ويجد الناس أنفسهم غير قادرين على الوصول لأموالهم، فلا تحويلات، ولا سحب، ولا دفع، فقط فوضى مالية.
المستشفيات والرعاية الصحية
نظم الملفات الطبية، أجهزة التشخيص، وحدات الطوارئ، كلها مرتبطة بالشبكات، وفي حالة توقف الإنترنت يصعب على الأطباء الوصول لملفات المرضى، وتتأخر نتائج التحاليل، وتتعطل بعض الأجهزة المتصلة بالأنظمة السحابية، كما تتأثر العمليات الجراحية المعتمدة على نظم الملاحة والتصوير ثلاثي الأبعاد، حتى طلب الإسعاف قد يصبح أبطأ بسبب عدم توفر نظم التوجيه.
النقل والمواصلات ووسائل الإعلام والإخبار
تطبيقات التوصيل مثل أوبر وكريم توقفت، وجوجل ماب لا يعمل، وحجز التذاكر مغلق، وإدارة إشارات المرور الذكية في خطر، والطرق تصبح أكثر ازدحامًا، وأكثر ارتباكًا، والناس تتأخر عن أعمالهم، وتُلغى رحلاتهم.
كما أن المواقع الإخبارية ستتوقف، ووسائل الإعلام الرقمية تُشلّ، وتداول المعلومات يصبح بطيئًا وغير موثوق، والناس ستبدأ في تداول الشائعات بدل الحقائق، مما يخلق حالة من الذعر الجماعي.
الجانب النفسي والاجتماعي
بعيدًا عن الاقتصاد والخدمات دعونا نذكر أكثر نقطة حساسة وهي الإنسان نفسه، ففي يوم اختفاء الإنترنت، لا تتعطل فقط الأنظمة، بل تتعطل النفوس أيضًا، ونحن لا ندرك كم نعتمد على الإنترنت للتواصل الاجتماعي إلا عندما يُسحب منّا فجأة، لا رسائل، لا مكالمات فيديو، لا منشورات، لا ردود، لا أحد يعرف شيئًا عن الآخر، والكثيرون، خاصة من يعيشون وحدهم أو يسافرون بعيدًا عن الأهل، سيشعرون بفراغ رهيب، وكأن العالم أصبح أبكمًا، لا يتحدث، ولا يسمع، وسيصيبهم القلق حين يعجزون عن الاتصال بذويهم ومعرفة أحوالهم وكأنه انعزل فجأة عنهم.
كما أن الإنترنت بالنسبة للبعض يعتبر ملجأ نفسي، فبعض الناس يلجؤون له للهروب من القلق، الاكتئاب، الضغط، وفي غيابه المفاجئ تظهر أعراض انسحاب حقيقية، كالتوتر، والقلق، وتأتيهم رغبة لا يمكن مقاومتها في فتح الموبايل، رغم أن كل التطبيقات لا تعمل.
وهناك من بَنَوا هويتهم بالكامل على الإنترنت، سواء صناع محتوى، أو مؤثرون، أو كُتّاب، أو فنانين، واختفاء الإنترنت بالنسبة لهم يعني ضياع أعمالهم، وغياب جمهورهم، وشعورهم بالفقد والعدم، وكأنهم لم يكونوا موجودين أصلًا.
ولكن في وسط كل هذا تظهر لمحة إيجابية، فالناس ستتحدث مع بعضها وجهًا لوجه، والآباء سيلعبون مع أطفالهم، والأصدقاء سيجتمعون، والضحك سيعود إلى الجلسات العائلية الدافئة من جديد، والكتب المهملة على الرفوف سينفض عنها التراب وستُقرأ من جديد، فرغم أن اختفاء الإنترنت قد يصبح كابوسًا، لكنه في الوقت ذاته كصدمة كهربائية تُعيدنا للحياة الحقيقية التي فقدنا شعورنا بها منذ زمن بعيد.
هل يمكن أن يحدث فعلًا؟
ربما يبدو لك سيناريو اختفاء الإنترنت كفكرة خيالية أو مشهد من فيلم نهاية العالم، ولكن الواقع أكثر هشاشة مما نتصور، فالإنترنت ليس كائنًا سحريًا يقبع في السماء، بل هو شبكة مادية معقدة قابلة للتعطل في أي لحظة، والبعض يظن أن الإنترنت سحابة تطير فوق رؤوسنا، لكنه في الحقيقة يسير في كابلات ألياف ضوئية تمتد آلاف الكيلومترات تحت البحار، وانقطاع أو تلف هذه الكابلات، سواء بسبب زلزال، أو حادث عرضي، أو حتى هجوم متعمد، كفيل بقطع الاتصال بين قارات كاملة.
حدث هذا بالفعل في أكثر من مناسبة، مثلما حصل في مصر وبعض دول الشرق الأوسط وجنوب آسيا عام 2008 حين حدث انقطاع لكابلين بحريين رئيسيين هما سي.مي.وي.4 وفلاج، واللذان يمثلان العمود الفقري للإنترنت في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وبالتالي حدث شلل جزئي في الإنترنت.
الهجمات الإلكترونية
هناك دول وأنظمة قادرة على شن هجمات إلكترونية واسعة تستهدف بنية الإنترنت التحتية:
⦁ خوادم DNS.
⦁ مزودي الخدمة الرئيسيين.
⦁ الكابلات البحرية.
⦁ أنظمة تشغيل الشبكات.
هجوم من هذا النوع، وهو ليس خيالًا، قد يعطل الإنترنت جزئيًا أو كليًا لدول بأكملها.
قرارات سياسية وظواهر طبيعية
في بعض البلدان، يتم فصل الإنترنت عمدًا بقرارات حكومية، لأسباب سياسية أو أمنية، وحدث هذا في إيران، والهند، وبعض الدول الإفريقية، وحتى روسيا في تدريباتها على الإنترنت السيادي، وهذا يُثبت أن زر الإغلاق موجود، ويمكن استخدامه.
والظواهر الطبيعية مثل العواصف الشمسية القوية قد تُحدث خللًا كبيرًا في الأقمار الصناعية، والشبكات، وأنظمة الكهرباء، مما يؤدي إلى توقف الإنترنت كجزء من آثارها الجانبية، وفي تقرير نُشر عام 2021 تم التحذير فعلًا من أن عاصفة شمسية قوية واحدة قد تتسبب في انقطاع الإنترنت العالمي لأسابيع عديدة.
كيف يمكن أن نستعد لهذا السيناريو؟
السؤال الأهم بعد كل ما سبق: هل سنقف عاجزين أمام لحظة اختفاء الإنترنت؟ أم يمكننا فعل شيء؟ والإجابة هي أننا لا ينبغي أن نعتمد على الإنترنت في كل شيء، فنحتاج لإعادة توزيع ثقتنا واعتمادنا، فلا يكون الإنترنت هو الخيار الوحيد لكل مهامنا، احتفظ دائمًا بنسخ ورقية من مستنداتك المهمة، وأرقام الطوارئ مكتوبة على ورق، ودفتر صغير لتنظيم مهامك بدل التطبيقات، وبعض الكاش بدل الاعتماد الكلي على الدفع الإلكتروني.
كما يجب أن تبدأ البنوك والمؤسسات الحيوية في توفير أنظمة تشغيل بديلة أو داخلية تعمل بدون إنترنت، وتدريب الموظفين على العمل اليدوي وقت الطوارئ، وإعداد خطط استجابة سريعة لانقطاع الشبكة.
وبدل الاعتماد الكامل على المقالات والمحتوى الرقمي، يمكننا اقتناء كتب ورقية، وتعلم مهارات بدون الحاجة لدورات أونلاين، وبناء مكتبة معرفية حقيقية في منازلنا، ولنُعد بناء علاقاتنا الواقعية، كالهاتف الأرضي، والزيارات المفاجئة، والأحاديث بلا شاشة، ولنحفظ توازننا النفسي والعاطفي بعيدًا عن وجود افتراضي هش.
في عالم يبدو وكأنه لا يتحرك إلا بخيوط الإنترنت، قد يبدو مجرد التفكير في اختفائه ليومٍ واحد كابوسًا مرعبًا، ولكن أليس من الحكمة أن نهيئ أنفسنا؟ أليس من المنطقي أن نعيد ترتيب أولوياتنا، ونُراجع هذا الاعتماد الكامل على شبكة قد تسقط في أي لحظة؟ ربما يكون اختفاء الإنترنت هو الصدمة التي نحتاجها لنتذكر من نكون بدون شاشات، ولنُدرك كم نسينا طعم العلاقات الحقيقية، والكتابة باليد، والانتظار بلا إشعارات.
فكر قليلًا ثم أجبني… لو اختفى الإنترنت غدًا، هل تملك حياة حقيقية تنتظرك؟ أم ستكتشف أنك عشت طوال الوقت داخل وهم رقمي هش؟